الأحد، 12 يونيو 2011

أعطنى الناى وغنى...رائعة جبران خليل جبران


العلمُ في الناسِ سبلٌ.. بأنَ أوَّلها
أما أواخرها فالدهرُ و القدرُ
و أفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرت بهِ
و سرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً
عن قومهِ و هو منبوذٌ و محتقرُ
فهو النبيُّ و بُرد الغد يحجبهُ
عن أُمةٍ برداءِ الأمس تأتزرُ
و هو الغريبُ عن الدنيا و ساكنها
و هو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا
و هو الشديد و إن أبدى ملاينةً
و هو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا


*********
ليس في الغابات علمٌ
لا و لا فيها الجهولْ
فإذا الأغصانُ مالتْ
لم تقلْ هذا الجليلْ
إنّ علمَ الناس طرَّا
كضبابٍ في الحقولْ
فإذا الشمس أطلت
من ورا الأفاق يزولْ
اعطني النايَ و غنِّ
فالغنا خير العلومْ
و أنينُ الناي يبقى
بعد أن تطفي النجومْ


**********
و الحرُّ في الأرض يبني من منازعهِ
سجناً لهُ و هو لا يدري فيؤتسرْ
فان تحرَّر من أبناء بجدتهِ
يظلُّ عبداً لمن يهوى و يفتكرُ
فهو الاريب و لكن في تصلبهِ
حتى و للحقِّ بُطلٌ بل هو البطرُ
و هو الطليقُ و لكن في تسرُّعهِ
حتى إلى أوجِ مجدٍ خالدٍ صِغرُ


**********
ليس في الغابات حرٌّ
لا و لا العبد الدميمْ
إنما الأمجادُ سخفٌ
و فقاقيعٌ تعومْ
فإذا ما اللوز ألقى
زهره فوق الهشيمْ
لم يقلْ هذا حقيرٌ
و أنا المولى الكريمْ
اعطني الناي و غني
فالغنا مجدٌ اثيلْ
و أنين الناي أبقى
من زنيمٍ و جليلْ

**********
و اللطفُ في الناسِ أصداف و إن نعمتْ
أضلاعها لم تكن في جوفها الدررُ
فمن خبيثٍ له نفسان واحدةٌ
من العجين و أُخرى دونها الحجرُ
و من خفيفٍ و من مستأنث خنثِ
تكادُ تُدمي ثنايا ثوبهِ الإبرُ
و اللطفُ للنذلِ درعٌ يستجيرُ بهِ
إن راعهُ وجلٌ أو هالهُ الخطرُ
فان لقيتَ قوياًّ ليناً فبهِ
لأَعينٍ فقدتْ أبصارها البصرُ


**********
ليس في الغابِ لطيفٌ
لينهُ لين الجبانْ
فغصونُ البان تعلو
في جوار السنديانْ
و إذا الطاووسُ أُعطي
حلةً كالأرجوان
فهوَ لا يدري أحسنْ
فيهِ أم فيهِ افتتان
اعطني الناي و غنِّ
فالغنا لطفُ الوديعْ
و أنين الناي أبقى
من ضعيفٍ و ضليعْ


**********
و الظرفُ في الناس تمويهٌ و أبغضهُ
ظرفُ الأولى في فنون الاقتدا مهروا
من مُعجبٍ بأمورٍ و هو يجهلها
و ليس فيها له نفعٌ و لا ضررُ
و من عتيٍّ يرى في نفسهِ ملكاً
في صوتها نغمٌ في لفظها سُوَرُ
و من شموخٍ غدت مرآتهُ فلكاً
و ظلهُ قمراً يزهو و يزدهرُ

**********
ليس في الغاب ظريف
ظرفهُ ضعف الضئيلْ
فالصبا و هي عليل
ما بها سقمُ العليلْ
إن بالأنهار طعماً
مثل طعم السلسبيلْ
و بها هولٌ و عزمٌ
يجرفُ الصلدَ الثقيلْ
اعطني الناي و غنِّ
فالغنا ظرفُ الظريفْ
و أنين الناي أبقى
من رقيق و كثيفْ

**********
و الحبُّ في الناس أشكالٌ و أكثرها
كالعشب في الحقل لا زهرٌ و لا ثمرُ
و أكثرُ الحبِّ مثلُ الراح أيسره
يُرضي و أكثرهُ للمدمنِ الخطرُ
و الحبُّ إن قادتِ الأجسام موكبهُ
إلى فراش من الأغراض ينتحرُ
كأنهُ ملكٌ في الأسر معتقلٌ
يأبى الحياة و أعوان له غدروا


**********
ليس في الغاب خليع
يدَّعي نُبلَ الغرامْ
فإذا الثيران خارتْ
لم تقلْ هذا الهيامْ
إن حبَّ الناس داءٌ
بين حلمٍ و عظامْ
فإذا ولَّى شبابٌ
يختفي ذاك السقامْ
اعطني النايَ و غنِّ
فالغنا حبٌّ صحيحْ
و أنينُ الناي أبقى
من جميل و مليحْ

**********
فان لقيتَ محباً هائماً كلفاً
في جوعهِ شبعٌ في وِردهِ الصدرُ
و الناسُ قالوا هوَ المجنونُ ماذا عسى
يبغي من الحبِّ أو يرجو فيصطبرُ
أَفي هوى تلك يستدمي محاجرهُ
و ليس في تلك ما يحلو و يعتبرُ
فقلْ همُ البهمُ ماتوا قبل ما وُلدوا
أنَّى دروا كنهَ من يحيي و ما اختبروا

**********
ليس في الغابات عذلٌ
لا و لا فيها الرقيبْ
فإذا الغزلانُ جُنّتْ
إذ ترى وجه المغيبْ
لا يقولُ النسرُ واهاً
إن ذا شيءٌ عجيبْ
إنما العاقل يدعى
عندنا الأمر الغريبْ
اعطني الناي و غنِّ
فالغنا خيرُ الجنون
و أنين الناي أبقى
من حصيفٍ و رصينْ
***

ليست هناك تعليقات: